وأمّا تَظْلِيلُهم بِالغَمامِ فالظّاهِرُ أنَّهُ وقَعَ بَعْدَ أنْ سَألُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ لِأنَّ تَظْلِيلَ الغَمامِ وقَعَ بَعْدَ أنْ نَصَبَ لَهم مُوسى خَيْمَةَ الِاجْتِماعِ مَحَلَّ القَرابِينِ ومَحَلَّ مُناجاةِ مُوسى وقِبْلَةَ الدّاعِينَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ في بَرِّيَّةِ سِينا فَلَمّا تَمَّتِ الخَيْمَةُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِن خُرُوجِهِمْ مِن مِصْرَ غَطَّتْ سَحابَةٌ خَيْمَةَ الشَّهادَةِ ومَتى ارْتَفَعَتِ السَّحابَةُ عَنِ الخَيْمَةِ فَذَلِكَ إذْنٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ بِالرَّحِيلِ فَإذا حَلَّتِ السَّحابَةُ حَلُّوا إلَخْ. كَذا تَقُولُ كُتُبُهم. فَلَمّا سَألَ بَنُو إسْرائِيلَ الخُبْزَ واللَّحْمَ كانَ المَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ في الصَّباحِ والسَّلْوى تَسْقُطُ عَلَيْهِمْ في المَساءِ بِمِقْدارِ ما يَكْفِي جَمِيعَهم لِيَوْمِهِ أوْ لَيْلَتِهِ إلّا يَوْمَ الجُمْعَةِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنهُما ضِعْفُ الكِمِّيَّةِ لِأنَّ في السَّبْتِ انْقِطاعَ النُّزُولِ. والمَنُّ مادَّةٌ صَمْغِيَّةٌ جَوِّيَّةٌ يَنْزِلُ عَلى شَجَرِ البادِيَةِ شِبْهُ الدَّقِيقِ المَبْلُولِ، فِيهِ حَلاوَةٌ إلى الحُمُوضَةِ ولَوْنُهُ إلى الصُّفْرَةِ ويَكْثُرُ بِوادِي تِرْكِسْتانَ، وقَدْ يَنْزِلُ بِقِلَّةٍ غَيْرِها ولَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ قَبْلُ في بَرِّيَّةِ سِينا.
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ تفسير بن كثير لما ذكر تعالى حال السعداء ثنَّى بذكر الأشقياء، فقال: { إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون.
وغَيَّرَ الأُسْلُوبَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ إذِ انْتَقَلَ مِن خِطابِ بَنِي إسْرائِيلَ إلى الحَدِيثِ عَنْهم بِضَمِيرِ الغَيْبَةِ لِقَصْدِ الِاتِّعاظِ بِحالِهِمْ وتَعْرِيضًا بِأنَّهم مُتَمادُونَ عَلى غَيِّهِمْ ولَيْسُوا مُسْتَفِيقِينَ مِن ضَلالِهِمْ فَهم بِحَيْثُ لا يُقِرُّونَ بِأنَّهم ظَلَمُوا أنْفُسَهم. وهَذا الظُّلْمُ الَّذِي قُدِّرَ في نَظْمِ الآيَةِ هو ضَجَرُهم مِن مُداوَمَةِ أكْلِ المَنِّ والسَّلْوى الَّذِي سَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١] الآيَةَ. فَكانَ قَوْلُهُ ﴿وما ظَلَمُونا﴾ تَمْهِيدًا لَهُ وتَعْجِيلًا بِتَسْجِيلِ قِلَّةِ شُكْرِهِمْ عَلى نِعَمِ اللَّهِ وعِنايَتِهِ بِهِمْ إذْ كانَتْ شَكِيمَتُهم لَمْ تُلَيِّنْها الزَّواجِرُ ولا المَكارِمُ. وقَوْلُهُ ﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ قَدَّمَ فِيهِ المَفْعُولَ لِلْقَصْرِ وقَدْ حَصَلَ القَصْرُ أوَّلًا بِمُجَرَّدِ الجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ والإثْباتِ ثُمَّ أُكِّدَ بِالتَّقْدِيمِ لِأنَّ حالَهم كَحالِ مَن يَنْكِي غَيْرَهُ كَما قِيلَ: يَفْعَلُ الجاهِلُ بِنَفْسِهِ ما يَفْعَلُ العَدُوُّ بِعَدُوِّهِ.